السبت، 24 سبتمبر 2011

زعتر

كانوا هناك .. في الطابق الثالث
عندما بدأت ذاكرتي في تسجيل الأحداث .. كانوا هناك
و للذاكرة عيب خطير .. فهي تُبقي أشياءًا و تسقط أخرى
لهذا اختفوا فجأة ..
فجأة ..لم يعودوا هناك


************
أول مذاق أذكره .. الزعتر
تصنع لنا "طنط سميرة" سندوتشات زعتر
هل كان الزعتر فقط .. لا أعلم .. ولا أذكر سوى الزعتر


************
طفلة في الرابعة .. تلعب مع طفلة في الحادية عشرة
لا أتذكر أي شيء عن ميّادة
لا أتذكر سوى التيشيرت الأسود المرسوم عليه غروب شمس برتقالية
تركته لي قبل مغادرتهم

************
تمر السنوات و اتساءل .. لماذا غادروا ؟
فتأتيني الإجابة
عادوا إلى وطنهم
و أين وطنهم
غزة .. فلسطين



************

لم تتوقف زيارات "عمو محمد" أو "أبو ميّادة" على مدار السنوات
حتى العاشرة ، كان بالنسبة لي "عمو" فارع الطول الذي يأتينا بالحلوى
أو يأتي بالشاي و البُن في أحيانٍ أخرى !
يبقى في مصر لفترة ، يزورنا مرتين أو ثلاث
ثم يعود ، دائمًا يعود



************

ربما لم أفهم ما تعنيه فلسطين أو القضية أو الاحتلال
ربما لم أفهم ما تعنيه الإنتفاضة
لا تحتاج لفهم كل هذه الكلمات عندما ترى طفل يحاول أبوه الذود عنه
يتوسل لحاملي البنادق أن لا تطلقوا نيرانكم
يبكي في وهن ، يحاول احتضان الفتى ، يرفع يديه في استسلام
لكن هيهات ، لا شيء يُجدي مع بشرٍ فقدوا ما يجعلهم بشرًا
يموت الولد ، العالم يدين الجريمة الشنعاء ، ثم تخفت الأصوات 
أما بالنسبة لي-تلميذة الصف الخامس- لم يمت الولد
بل بقى هناك ، في مكان ما من الذاكرة 



************

لم أكن أذكر قصة الزعتر حتى الخامسة عشرة !
و لم أتذكرها حتى أتى "عمو محمد" من غزة بكيس كبير ملئ بالزعتر !
كالمحمومة صنعت لنفسي "سندوتش زعتر" !!



************

لا أذكر ميّادة الطفلة
لكني أذكر ميّادة الشابة !
طالبة طب في الثانية و العشرين ، تشبه ماجدة الرومي عندما تبتسم
أقامت في مصر فترة من أجل التدرب في احدى المستشفيات
تحب الموسيقى ، تحب فيروز
تنام على صوتها أحيانًا ، و أحيانًا على صوت مروحية تحوم فوق منزلهم !



************

تذكرتهم و أنا أقرأ "الطنطورية" 
تذكرتهم و أنا أقرأ "رأيت رام الله"
أطيافهم تلاحقني ..
اتساءل إن كانوا بخير ..
فتأتيني الإجابة في اليوم التالي !
يقول أبي:
"تخيلوا مين كلمنى امبارح ، عمو محمد جارنا الفلسطيني ، أكيد نيّرة فاكراه ؟"
اهز رأسي في ذهول
"كلهم كويسين بس هو مش عارف ييجي مصر ، و مراته كلمت ماما"
"ميّادة كانت عايزة تكلمك ، بس انتي كنتي نايمة "
"اتجوزت و خلفت ، عندها طفلين دلوقتي"


ابتسمت..










الجمعة، 9 سبتمبر 2011

عالم أفضل


ليدي اليسرى قدرة عجيبة ..
فيكفي أن أمس بها الأرض برفق لتمتلئ قمحًا !


أما يدي اليمنى ..
فتنشر من حولي أغصان الزيتون


اضرب بقدماي الأرض .. فتتفجر أنهار و تسيل


 بسبابة يدي اليمنى ، ارسم افكاري على السماء
و من اليسرى ، تنبعث موسيقى مرئية تحيط بي .. تحيط بالوجود




في لحظات .. تتحول الأرض إلي جنة
أتلفت حولي كي أرى نظرات إمتنان .. سعادة
لكني لا أجد أحدًا
فالبشر قد انتهوا !

الأربعاء، 31 أغسطس 2011

يوسف الذي يبكي


خدعوك دائمًا ..
صرتَ تميّز الشرير بجسده الضخم ، أنيابه البارزة ، شعره الفوضوي ، ملابسه الرثّة ..
تعرفه بأنه بذئ اللسان ، أجش الصوت ، منحرف الذوق ، يدخن بشراهه ، لا يتحرّج أن يسعل ويبصق أمامك دون أدنى سبب منطقي ، لا ينغلق جناحيه على أي مشاعر رقيقة ، وربما لديه رِجل مسلوخة .
كنتُ اشاهد معك تلك الأفلام الأفّاقة ، بل وكنت أمسح وجهي في كل مرة يبصق فيها ذلك الشرير ، وأكره تلك الهالة التي أحاطوه بها .

صديقي ..
الشرير شخص مثلك تمامًا ..
ربما كان يدخن بشراهة ، لكنه أنيق ، بسّام ، هادئ الطباع ، مألوف القسمات ، يغسل أسنانه بالمعجون ، ولديه عطر لا يجازف بتغييره ..
يمكنك أن تُضيف أنه يذهب إلى نفس الكلية التي تذهب إليها ، يعشق فيروز ، يكره الشمس ، ولا يسير إلا ومعه حقيبته على كتفه ..

الشرير يرقّ قلبه إن رأى طفلاً يبكى .


=======

مذ كنت صغيرًا ولديّ أمل أن اسنيقظ ذات يوم أجد أنه قد تم إلغاء فترة الظهيرة من اليوم ..
أكره الشمس حقًا ..
ولمن قال أن المناخ المصري حار جاف صيفًا معتدل ممطر شتاءًا عدة صفحات في دفتر رغباتي الشريرة ..
أفقد أعصابي لأتفه الأسباب ، وأصير أكثر عدائية من دُبّ قطبيّ جائع .

عائدًا من الامتحان الشفوي مرتديًا البذلة والحذاء الجلدي اللعينيْن ..
وسيأتي يومٌ - لا ريب - أنكّل فيه بمن أوجب ارتداء البذلة في الامتحان الشفوي ..
أنزل محطتي أخيرًا بعد انتظار 13 محطة كاملة ..
أسير في الزحام فيكاد يبتلعني ..
أصوات الباعة تنخر في تلافيف مخي وتزيد من توتري ..
الآن ، أنا على استعداد تام أن أقتلع مقلتي أي كائن حي يعترض طريقي .

أمامي كانت تسير هي ، وطفلها ممسكًا بيدها يبكي .

=======

ما إن تراه حتى تحبه ..
تود لو تأكل وجنتيه ، تطوحّه في السماء و تلتقفه .. أو بالأحرى يلتقفك هو بعد أن يطوف بروحك في سماء ذهبية ..
طفلٌ مميزٌ بلا شك ..
تميّزه أكثر طريقة بكائه .. كان يبكي بلا صوت .

كان يسير أمامي ..
أبطأت الخطى ، أريد فقط أن أعرف لماذا يبكي ، وأريده أولا أن يكفّ عن البكاء أو حتى يصرخ ، أما ما يفعله هذا كان يجعل روحي تنقبض في كل مرة يستدير برأسه نحوي .

استقل مع أمه ذات العربة التي استقليتها ، وجلسا بجواري .
تطلب منه أمه أن يكفّ عن البكاء ، فلا ينظر إليها ، ويدير رأسه نحوي ..
بعد قليل صار أكثر هدوءًا ، مددت يدي نحوه و سألته :

- اسمك إيه ؟
- يوسف
- وبتعيط ليه بقة يا أستاذ يوسف
- ماما مش راضية تجيبلي الكوتش اللي أنا عايزه

وهنا تدخلت أمه :

- مش أنا جبتلك صندل أهو .. شايف جميل إزاي
- بس أنا عندي صندل ، وأنا عايز ألبس كوتش

ها هو الآن يتحدث مع أمه ، فأنسحب أنا :

- الصندل أحسن من الكوتش
- أنا عايز كوتش ، ومش هلبس الصندل دة
- المفروض في الصيف الناس كلها تلبس صنادل
- بس أنا عمري ما لبست كوتش ، كل مرة بتجيبيلي صندل ، وكل صحابي في المدرسة بيلبسوا كوتش وأنا بس اللي بلبس صندل ، وبيتريقوا عليا ، و ..

فاض الكيل بالأم ، وانفجرت باكية :
- قولتلك 100 مرة أنت مش زيهم ، مينفعش تلبس كوتش ، رجليك معوجة ، فاهم ولا لأ .. رجليك معوجة ؟!


أخرستنا جميعًا ..
أثنت كل من كان يريد تلطيف الأجواء ، أي كلمة كانت ستصير منطوق سخيف لا معنى له ..
حتى يوسف كتم بكاءه ، أخذ الصندل من أمه ، وكفّ عن المماطلة ..

يوسف لم تسعده قطعة الحلوى التي أعطيتها له .

السبت، 27 أغسطس 2011

!! أولئك البشر

من الطبيعي بعد ستة أيام من الإقامة في غرفة واحدة مع تسع فتيات(!) .. أن تؤثر العزلة لفترة..
أن تقبع في غرفتك تقرأ
أو تظل محملقًا في سقف الغرفة مستمتعًا بالصمت
أن تمقت البشر
------------------
هم يحبطونك
لا يدري الواحد منهم أن كلمة بسيطة لا تعني لهم شيئًا قد تفعل بك الأفاعيل
ربما ليس خطأهم وحدهم
أنت ايضًا تطلب الكثير
لكنك لا تلبث تمقتهم
-------------------
من الطبيعي عندما تفقد شخصين اعتبرتهما من أصدقائك المقربين
أن تمقت البشر
------------------
عندما يحطمون عظام يده
كي يمنعوه من حمل سلاحه
سلاحه ريشة و أوراق
لكنها تقض مضاجعهم و تفضح أفعالهم
عندها تمقت البشر
-------------------
عندما تخبرها أن وجوده بيننا يضايقك
و تقول هي في بساطة "امشي انتي"
عندها تمقتها .. تمقتهم
-------------------
حمل بندقيته
و ذهب ليطالب بحريّته
تسأله أمه في جزع
"متى ستتوقف عن القتال؟"
فيرد
"عندما أصل إلي باب العزيزية"
حقّا وصل
عندها تمقته .. هذا الذي أطلق رصاصته وهو مختبئ كالجرذان
تمقتهم
--------------------
عندما تجد أن شعورك يسري كتيار من طرف واحد
لا طرف آخر ليستقبله
عندها تمقته
تمقته
...
و بعد
ألا ترى معي أن البشر مقيتون ؟!!

الجمعة، 26 أغسطس 2011

هذيان


لأنها لا تدري ما علتها
ولأن الصمت الآن قد يعني الموت كمدًا ..
فلتكتب
فلتطلق سراح الهذيان

1
"هواء"
وأنا صغيرة .. أول ما ابتديت أتعلم الكتابة
كان عندي عادة غريبة
كنت بكتب بصباعي على الهوا
أحيانًا كلمة واحدة و أحيانًا جملة
كنت بشوف الكلام !
بس أول ما أغمض عيني مرة كان بيروح .. كأني بحبس الكلام جوه عيني
مش فاكرة بطلت أكتب على الهوا امتى
بس النهاردة كنت عايزة أكتب على الهوا
و بعدين أغمض عيني .. فتنمحي الكلمات


2
"دوران"

أراه يدور بلا انقطاع
يدور بلا دوار
و في دورانه أذوبُ
أدور أنا ايضًا
محملة بأثقال و ذنوب
أدور
تسقط بعض الأحمال
فأدور
مغمضة العينين .. لا أفكر بشيء
فقط أدور
أوزار أخرى تنزاح عن كاهلي
يخف وزني
ترتفع قدماي
فأدور بقوة أكبر
يسقط الحِمل الأخير
و في الأعلى أكون

3

رغبة دفينة :
نفسي آل باتشينو يرقص معايا تانجو زي ما رقص مع البنت في فيلم
Scent of a woman


4
-عزازيل ، ألا تنام ؟
- كيف أنام و أنت مستيقظ ؟

5
رغم كل التظاهر و محاولات التحضر و الابتسامات الصفراء
!أكرهكم بشدة
..أكرهكم كما لم أكره أحدًا من قبل
!!أكرهكم فأكره نفسي لأن بداخلها كل هذا الكره

6
كنا كل ما نروح لجدتي .. تفتح دولابها و تطلع منه شمعدان أحمر (اللي بيتاكل ده :D)
لدرجة إني كنت ابتديت أشك إن الشمعدان ده عندها هي بس !
و مكانتش تجيبلنا خالص من الشمعدان التاني أبو ورقة صفرا
دائمًا و أبدًا .. الشمعدان الأحمر
!!أنا عايزة شمعدان أحمر

7
!كذبة اليوم : رح نبقى سوا

الأربعاء، 24 أغسطس 2011

تلابيب الكتابة


ما فائدة أن اكتب إن كنت لن تقرأني ؟"*
"هل من جدوى لصوت لن تسمعه أذن ؟

اقرأ مقولتها فأجزع .. حقًا ما جدوى الكتابة ؟
"! فأجد صوتًا بداخلي يهتف "اكتبي لنفسك

و ماذا لو كانت نفسي قد ضاقت عليّ .. و ظننت ألا مخرجًا منها إلا إليها -
اكتبي .. فلربما يجعل الله في كتابتك الشفاء -
وهل في الكتابة شفاء .. أم أنها تزيد الشقاء؟ -

أن اكتب يعني أن أحفر داخل عقلي .. أن ازيل طبقات قد تراكمت فوق روحي خلال شهور
ان اكتب يعني أن اغضب .. أن احزن .. أن اتألم
.و أنا لم أعد أريد أن أغضب .. سئمت الغضب


"الصمت يليق بي .. يليق بي لأن نافذتي ما زالت نصف مفتوحة"*

! فلتغضبي إذًا-
اغضبي الآن قبل أن تفقدي نفسك تمامًا .. قبل أن تفقدي القدرة على الغضب

احاول أن امسك بتلابيب الكتابة
..لكنها عليّ عصية

الكتابة جمال .. و الجمال صدق .. و الصدق حرية مطلقة .. نافذة على مصراعيها مفتوحة"*
عقل يجول بعنفوان و يعطي أوامره للتعبير عن فكرة ، فكرة تبسط عقيدة .. اختارها العقل و ادركها و اوصلها للوجدان وعيًا .. وللقلب نبضًا .. فصارت جيشانًا ، لابد له من تشكل في كلمات لا تخرج إلا و نافذة على مصراعيها مفتوحة
"فأين مني الجمال ؟ .. أين مني الكتابة و أنا واقفة بين المغلق و نصف المفتوح

في النهاية .. أحاول أن أجد بصيصًا .. أن افتح النافذة
سأكتب حتى تعييني الكتابة
!أو لعلها تشفيني



من كتاب"تلابيب الكتابة" لصافيناز كاظم *

testing...

الشكر كل الشكر .. لهذا الذي سمح لي أن اشاركه
علّه لا يندم لاحقًا :D




شكرًا محمود عزيز
:)

الخميس، 28 يوليو 2011

مشهد أخير : إلى الرفيق الأعلى

طرح فجأة أرضًا ، لا أعلم من أين أتى .
سالت الدماء من جسده ، تخضب تمامًا ، كما لو كان قد خُلق بجلدٍ أحمر قانٍ ..
صرت أجهل من أي الأماكن تحديدًا تتدفق الدماء .
ورغم أن الأصوات حولنا كانت تصمّ الآذان ، إلا أنها تلاشت جميعًا وأنحنت أمام أنّاته الضعيفة .

مِلتُ برأسي على وجهه ، وضعتُ يدي على صدره ، وأذني أمام فمه ..
لا أعلم لماذا ، لكنى شعرت أنني بحاجة إلى الاقتراب منه إلى أقرب درجة ..
كان يردد في وهن : هموت .. هموت
قال قلبي : نعم ستموت ، وجهر لساني : لا ، لن تموت .

كان قد أمسك بساقه ، التي صارت ساقيْن ؛ فأخذت عصا كانت ملقاة بجانبي .. كانت تقطر دمًا هي الأخرى ، ضُرب بها أحدهم بالتأكيد ، ربطتُ بها ساقه .
شممت رائحة الموت تسري في الأجواء ..
نعم ، الرائحة التي لا تخطئها أنفي ..
كانت تملأ البيت هنا يوم ذهب أبي ، وتسكنه يوم رحلت أمي ..
وها هي في الشارع ، حيث مئات الآلاف من أنبل المصريين وأكثرهم شرفًا وبراءة ؛ فمن ستأخذ ومن ستذر ؟!

قال : هموت .
قلت : اثبت ، لن تموت .
قال : لا أشعر بجسدي ، أطرافي تلاشت ، وقلبي فرّ من مكانه ؛ سأموت لا محالة .
أمسكتُ بيديه ، كانتا متجمدتين بالفعل ..
نظرتُ في عينيه الزائغة ، بدت كأنها تدور خائفة تبحث عن ملاذٍ آمن داخل محاجرها ..
قلت : استجمع قواك ، ستنجو ، فقط قل : لا إله إلا الله
لم يجبني ، رأيت روحه تخرج من جسده المسجي بين يدي ، ثم عادت إليه مرة أخرى ، كأنما تذكرَتْ شيئًا ..
فضحك ، ضحك كثيرًا ..
وضع يديه على جانبيّ رأسي وقال هامسًا : ما أنقى روحك ، تخبرنى أننى لن أموت ، وتلقنّي الشهادة في الوقت نفسه !
وضحك مرة أخرى ؛ فانهرتُ تمامًا وأجهشت بالبكاء ..
نطق الشهادتين ، أغمض عينيه ، ابتسم ، وارتقى إلى الرفيق الأعلى ..
صرخ بجواري أحدهم : مات ؟
قلتُ في هيستيرية : بل هو حيًّ عند ربه يُرزَق .. حيًّ عند ربه يُرزَق



والآن ، أغمض عيني وأرفع رأسي ؛ فأسمع أجنحة ملائكة ترفرف ، وأسمعها ترتل :
" لَيُدْخِلَنَّهُم مُدْخَلاَ يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ "


وأراه ينظر لي من السماء ، ومن خلفه زخرفات لجملة مرّت أمام عيني يومًا :
" الموتى لا يغادرون عالمنا ، حتى لو حملتهم سيارات الإسعاف ، وحتى لو رقدوا في المشرحة بين جثث الغرباء "


وأراه يبتسم ؛ فأبتسم .

الثلاثاء، 12 يوليو 2011

مشهد 6 : حيّ على الصلاة

الجمعة 28 يناير 2011

نزلت يومها بعد صلاة الجمعة مباشرةً ، لم أستطع الوصول إلى ميدان التحرير، كنت قد بدأت السير على قدميمن المنيل ، وتعذر التقدم أبعد من شارع القصر العيني .حان وقت صلاة العصر.وفي الزحام، كان الثوار يصلون في جماعات متفرقة .صاح من كان أمامي ليقيم الصلاة . اصطف الجميع ،فكنت فى الصف الثاني بعد الإمام .ما إن أطلق الإمام تكبيرة البدأ ، حتى ظهر فجأة جماعة مما لا يقل عن مائتي شخص ، يتقدمون نحونا . ورغم أنني أخشع دائمًا في صلاتي بشكل مقبول ، إلا أنني -لا أخفيك سرًا- كنت أرتجف رعبًا ، أكاد أسمع صوت اصطكاك ركبتي ، وأعتقد أن الجميع سمعهما ؛فأنا لا أعرف من هم ، وماذا قد يفعلون .. ثم إنهم لماذا لا يصلون كالجميع ؟!أيقنت بضياع الصلاة بعد أن تشتت عقلي في مناحٍ عديدة .وفي الركوع الأول ، قال أحدهم بصوتٍ عالٍ :"إحنا إخواتكم المسيحيين،هنحوّط حواليكم لحد ما تخلصوا صلاة ، صلوا في أمان .. "ثم أخذوا بتحلقون حولنا بأيدي متشابكة .

كانت أخشع صلاة أديتها في حياتي ،إحم، إذا ما استثنينا الركعة الأولى .. و والله ، لم أتمن الموت أبدًا مثلما تمنيته في سجود هذا العصر .

الاثنين، 11 يوليو 2011

مشهد 5

بعد معركة الغاز السابقة ، أخذني بعض الرفاق إلى شارع جانبي ، ومنه إلى مدخل أحد البيوت .
كانوا يلقنونني عدة تعليمات وأوامر لم أسمع منها شيئًا ، وبالتأكيد ، لم أنفّذ منها حرفًا .
عندما فتحت عيني ، رأيتها تأتي نحوي مهرولة ؛ سيدة في الخمسينات من عمرها ، لن تجد أفضل منها تستعين به ، إذا أردت وصف كلمة (الفقر) ..
جلست أمامي وبجوارها صندوق مياة غازية ، فتحت إحدى الزجاجات وبدأت تغسل بها وجهي ، ثم أخرجت من مكان ما بعباءتها منديلاً مبللاً بالخل ، مسحت به وجهي .
بدأت أستعيد حالتي الطبيعية ، نظرت لها ، كانت في لهفة حقيقية ، لا تكلُّف فيها ، فابتسمتُ لها ، وقلتُ مداعبًا : إنتى جيتي منين ؟
قالت : أنا بشتغل هنا ، الكشك اللى هناك دة بتاعي ، ببيع فيه حلويات وبيبس وسجاير ..
تنهدت،وقالت وهي تضحك : عارف يا بني .. ببيع البيبس دة من أكتر من 25 سنة ، وآخر مرة شربته كانت لما بنتي خلّفت ، ابنها دلوقتي في الإعدادية ،
مكنتش برضى أفتح ليا إزازة ، وأقول خليها أبيعها أكسب فيها أى حاجة أحسن ..
يقوم يجي اليوم اللي أغسل فيه وش الناس بالبيبس .
ضحكتُ أنا الآخر ، وقلبي بالداخل يبكي ، وقلتُ لها : بكرة هنشرب كلنا شربات يا أمي .
لمعت قطرات رقراقة بعينيها ، قبَّلت رأسي ، وقالت في حنوٍ بصوت لم يخلُ من شوْق وتوْق : ربنا يحميكوا يا ابني .
قبَّلتُ رأسها ، وذهبت ُ .

4 مشهد

لا أدري كيف صرتُ فجأة في الصفوف الأولى ..
كانت عناصر الشرطة في أوج غضبها ، ولا أدري أيضًا لماذا ؛ فلم يرتكب أيٌ من المتظاهرين أي جُرم .
كانت الرصاصات تمر من فوق رأسي بأقل من متر ، وتسقط فوارغها أمامي .
ثم سقطت إحدى القنابل المسيّلة للدموع بين قدمي ، أمسكت بها ، لا أدري ماذا أفعل بها ..
هل أردّها عليهم ؟! لكنهم مصريون مثلي ، قد يكونوا مُجبرين على تنفيذ الأوامر ولا ذنب لهم ..
حسنًا ، سأرميها بعيدًا على أحد الجوانب الخالية فلا يتأذّى أحد ، ولكن أين هو ذلك الجانب الخالي ؟ ، فـ على مدى البصر ، لا أرى سوى رؤوس المتظاهرين ..
إذن ، ما العمل ؟
كانت القنبلة قد أوشكت على الإنتهاء من إفراغ ما بها من غاز إلى عيني وأنفي ، لم أعد أرى شيئًا ، وتملكّني الدوار ..
فأخذها أحدهم من يدي ، ورماها بإتجاه قوات الشرطة بعيدًا ، وهو يقول في حسم وحزم ، وكأنه قرأ ما كان يدور في رأسي : تحب تموّت نفسك ، ولا يموتوا همّا ؟!

الثلاثاء، 5 يوليو 2011

مشاهد

مشهد 1

أصيب في رأسه ، لم يضربه أحد العساكر ، ولم يحاول أحد الاعتداء عليه .
ولكنه ، عندما فاض الكيل ببعض الثوار بسبب تعنت عناصر الأمن المركزي وعنفهم غير المبرر ، بدأوا يقذفونهم بالحجارة ...
وكان هو يحمي العساكر !
كان يصرخ فى الثوار مذكِّرًا : سلمية .. سلمية .
وبعدما حاول بعض الرفاق تمريضه وتضميد جروحه ، أخذه العساكر ، الذين أصيب في سبيل حمايتهم ، إلى سيارات الأمن المركزي ، واختفى .

**********

مشهد 2 :

كان أحدهم مُلقى على الأرض ، مصاب برضوض في رأسه وجروح في جسمه ، ولا يستطيع حتى النهوض .
جريت ناحيته ، وقلت : في عربية إسعاف هناك أهي ، يللا نشيله نوديه بسرعة ..
صاح : لا ... اللى خبطتني كانت عربية إسعاف ، ولو ودوتنى ، هيسلموني للشرطة ، وإنتو معايا !

**********

مشهد 3:

مرقت سيارة إسعاف أخرى بيننا ، غير مبالية بالمصابين ، لا تنتظر أحدًا ، ولو كان أحدٌ قد وقف أمامها ؛ لأكلته .
ذهبت - السيارة- إلى صفوف الأمن ، اعتقدتُ أنها ستحمل أحد المصابين من العساكر ..
لكنها كانت تنقل لهم الذخيرة والقنابل المسيّلة للدموع .

بدء النزول

بدأت النزول يوم الأربعاء 26 يناير سنة 2011 ، وحتى الجمعة ، جمعة الغضب ، اليوم المشهود .
شهدتُ اليوم بعيني ، أجلّ ما مرّ عليّ من أيام .
رغم إمتلاء اليوم بالذل ومهانة المصري بيد مصري ، وقتل بعضُنا لبعضِنا ..
رغم إمتلاء اليوم بالطعنات والخناجر المسمومة التي أدت قلبي ..
رغم الشوكة التي زُرعت في نفسي ، ولن تُجتث ..
رغم الغصّة التي ستظل في حلقي إلى الأبد ، ومرارتها التي ستظل تتعتق في فمي إلى أن ألقى وجه العدل المنتقم ..
فإنه سيبقى أعظم يوم شهدته في حياتي ..
سأظل أتذكره ، وأخلّده ، وأحكي لأولادي وأحفادي وكل نسلي من بعدي ، كيف وهبهم الأولون حريتهم .

لن أخوض في تفاصيل الأيام كاملة ، فأنت قد قرأت وسمعت عنها الكثير ، وربما تكون قد رأيت بنفسك ..
كذلك ، لا أتوقع أن تستعيد ذاكرتي كل هذه الأحداث والتفاصيل دون أن تتمزق ، وتعرّي من نُحت تحتها من شروخ وأخاديد حُفرت ، ولن تُردم أبدًا .
فقط ، سأحكي عن بعض المشاهد التي رأيتها بعيني وكنت أحد أطرافها ، خلال تلك الأيام .
وأغلبها - إن لم تكن جلّها - مشاهد ربما تكون صعبة بعد الشئ..
فإن كنت من هؤلاء الذين يفضلون إغماض أعينهم على رؤية الألم ، فأرجوك ، توقف عند هذا الحدّ .

الجمعة، 1 يوليو 2011

الشظية

لم أنزل يوم الثلاثاء 25 يناير 2011 !
نعم ، تخلفتُ عن أول أيام الثورة .. ثورة الحرية والكرامة .
لم أنزل ؛ ليس لأنني كنت مسافرًا ، أو لأنني لم أعلم بوجود ثورة ،
ولكننى لم أنزل لأسباب أخرى ...

==========

عشتُ ما مرّ من عمري مولعًا بالتاريخ ، أقرأ عن نضال الشعوب في سبيل الظفر بحريتهم ، أو لطرد مستعمِر أجنبي ، أو .. أو ..
قرأت عن الثورة البلشفية ، وعشتُ الثورة الفرنسية ، كنت زنجيًا بجانب مالكوم إكس ، هِمتُ بالثورة الجزائرية ..
وكذلك الثورات المصرية : العرابية ، ثورة 1919 ، وأخيرًا ثورة يوليو .

تاريخ .. تاريخ جميل ، وشعوب عظيمة كافحت حتى نالت حريتها بيدها ، ولم تتسولها .
تساءلت كثيرًا : لمَ انتهى عصر هذه الثورات ؟ لماذا لا تثور الشعوب ؟
هل هم راضون عن حياتهم إلى هذا المدى .. أم إنهم إرتضوا بها ؟!
كانت الإجابة الوحيدة : الثورات تاريخ .. تاريخ عظيم ، كُتب قديمًا لنقرأه ، نقرأه فقط .

تمنيتُ كثيرًا لو كنتُ في إحدى هذه الثورات التي قرأتُ عنها ، لو تذوقتُ ذلك الاحساس الذي طالما شعرتُ به وأنا أقرأ ، على أرض الواقع .
ظل حلمًا ، ليس بعيد المنال فحسب ، بل من المحال أن يتحقق ؛ فإرادة الشعب قد ولّت ، وزال ثمن الثورات ، نسى الناس صوتهم وأنهم ما زلوا أحياء ،
وعلينا أن نمضي أجلنا بإنتظار معجزة من السماء ..
بإنتظار جنود الله ... تخلصنا من عبيده !

كانت أمنية عصيّة ، واحدة من تلك الأمنيات التي تتمناها عندما ترى شهابًا يدلف في السماء ، وما إن توليه ظهرك ، حتى يُخرج لك الشهاب لسانه مستهزءًا ، وربما قال لك : هع .. إبقى قابلني !

جاء الحلم ، وبدأت الثورة ... ولم أنزل ؛
لأنها بالتأكيد مزحة سخيفة ؛ فزمن الثورات - كما تعلم – قد ولّى ..
وأنا أنتظر معجزة من السماء ..
أنتظر جنود الله ..

(( أو هكذا إعتقدتُ))

***

كمعظم الشباب ، تلقيتُ دعوة النزول لمظاهرة سلمية من خلال الفيس بوك .
علمتُ بكل التفاصيل ، موعد المظاهرة ، وأماكنها ؛ فضحكت ، وقلتُ كما قال لك الشهاب قبل قليل : مظاهرة ؟ هع .. إبقى قابلني !
ولأنني أكره لعب دور مُثبِّط الهِمم ، تحاشيت الحديث مع أحدٍ في الأمر ، وتركت من انتوى المشاركة يشارك ، وهم على كل حال لن يتخطوا المئات ، وسأجلس أنا مع الجموع الغفيرة أتابعهم من المنزل .

جاء الحلم ، وبدأت الثورة ... ولم أنزل ؛
لأننى يائس ، لم أثق يومًا بإرادة المصريين حتى بات إيماني أن لا شئ - سوى صور إسرافيل – بإمكانه إيقاظهم من سباتهم العميق ، فهل مجرد دعوة على الفيس بوك ستكون هذا البوق ؟!
محال !

(( أو هكذا إعتقدتُ ))

***

على مدى الماضي القريب ، تابعتُ عدة أحداث مثل هذه تتم ، وتبوء جميعها بالفشل ؛ إما لأن أحد لم يلبّي الدعوة ، أو لأن أحد لا يستجيب .
تابعتُ إعتصام عدة نقابات ، ومظاهرات المحلة ، والعديد من الوقفات الاحتجاجية ، والمسيرات السلمية ، وما لا يحصى من الوقفات الصامتة ؛ ولم يحرك أحدٌ ساكنًا ، وكأنها كانت فى دولة أخرى ،
بل وأعتقد أن السادة المسئولين قد خرّوا على قفاهم ضاحكين ، ومن الأخيرة بالذات (وقفة صامتة ! )

جاء الحلم ، وبدأت الثورة ... ولم أنزل ؛
لأنني متشائم ..
فقل لي أنت بالله عليك .. لم أتكبّد هذا العناء ، ما دام سيضيع في النهاية هباءًا ؟!

(( أو هكذا إعتقدتُ ))

***

ليس لديّ - نسبيًا – همّ شخصي أعاني منه ..
لا أعاني ضائقة مالية ، لا أريد علاجًا على نفقة الدولة ، لا أقف ساعات فى طوابير الخبز ، لم يقتل مخبرون أخى ثم ينعتونه " شهيد البانجو " !
بالإضافة إلى إنى طالب فى أفضل كلية .. كلية الطب .. في غضون سنوات قليلة سأنهي دراستي وأصير طبيبًا ، وربما طبيبًا ماهرًا ، لم لا ؟!
سيكون لي مركز إجتماعي مرموق ، مهنة شريفة ، منزل هادئ ، زوجة حنون وأبناء طيّبون ، وثروة (فلمَ الثورة؟!) .
لماذا أنزل وأُقتَل ، أو يتم اعتقالي ، وأضيع بذلك هذا الحلم الوردي الجميل ؟!

جاء الحلم ، وبدأت الثورة .. ولم أنزل ؛
لأنني كنت جبانًا !

(( أو هكذا إعتقدتُ ))

==========

لم أنزل يوم الثلاثاء ، لكنني نزلت الأربعاء والخميس والجمعة .
ما رأيته يوم الثلاثاء حطّم يأسي وتشاؤمي وجُبني .

- لم تكن مزحة سخيفة ، بل كانت ثورة .. ثورة حقيقية ، كتلك التي طالما قرأتُ عنها . لم أكن لأفوّت فرصة المشاركة في الثورة .. حلمي القديم ، وأملي الحاضر ، والسبيل الوحيد لغدٍ أفضل .
لم أكن لأفوّتها ، وأجلس لأتابعها في التلفاز ..
أردتُ كتابة ثورة ، وليس مجرد قراءتها ...
لذا نزلت .

- لأننا خير أجناد الأرض ..
لأننا - نحن - المعجزة ..
لأننا - نحن - جنود الله ، إذا أخلصنا النِيّة ..
لأن الله لا يغيّر ما بقومٍ حتى يغيّروا ما بأنفسهم ...
لذا نزلت .

- استيقظ المصريون واستفاقوا .. نزل مئات الآلاف يطالبون بحقوقهم ، وبدا شعاع الأمل يلوح في الأفق ...
لذا نزلت .

- نزلتُ ؛ لأنني لم أخش شيئًا ، الحلم الوردي كان باطنه أسود اللون والمصير . من يريدون الخبز و العلاج هم أهلي ، وشهيد الطوارئ أخي ، من أخدع ؟!
وأي حياة أخاف عليها ؟! فليقتلوني إذن إن أرادوا ..
للحرية ثمن ليس ببخس ، وللجنة ثمن نفيس ...
لذا نزلت .

***

نزلت ..
كنت قاب مترين أو أدنى من الموت ، مرّ الرصاص من أمام عيني ومن فوق رأسي ، سقطت قنبلة تحت قدمي ، زُهقت روحٌ بين يدي ..
نزلت ..
صرخت معهم : الشعب يريد إسقاط النظام ..
وطفر الدمع من عينى لهيبًا وأنا أهتف : حـــــريـــــة .. حـــــريـــــة .

============

سؤال محيّر :

ترى أيهم أنا ؟
محمود الذي منعه الخوف من النزول أول أيام الثورة ..
أم محمود الذي نزل بقية الأيام يبحث عن الموت ، والموت يهرب منه ؟!

***

سؤال قاسي :

لماذا لم يدركني الموت ؟
يا ويلتي .. أأنا موغل في النأى إلى هذا الحد عن منزلة الشهداء ؟!

الأحد، 12 يونيو 2011

مبتدأ ثان

عقدتُ العزم أخيرًا على إنشاء الموضوع منتصف الشهر الماضي ، عزمٌ لا رجعة فيه ..
تبقى فقط أن أختار عنوانًا ..
أول ما قفز فى ذهني كان اسمًا زياديّا صريحًا ((نسبةً إلى مرشدي الروحي زياد رحباني)) :
" هدوء نسبي "

كان الاسم ملائمًا تمامًا .. هدوء نسبي .. يلائمني ويلائم حياتي كذلك :
- هدوء تلم يلفّني في معظم الأوقات ، أعيش وحيدًا ، أتكلم فقط عند الحاجة / وحتى عندما أردت اقتناء حيوان ، اخترتُ اثنيْن لم أسمع لهما صوتًا حتى الآن :
سميرة (سلحفاة) ، و كريمة (سمكة) .
- لكنه نسبي ، من يرى ظاهره لا يعلم ما يدور بالداخل من أعاصير ، وما يتأجج من براكين .
هدوء نسبي .. اسم نموذجي ، ليس له تيديلاً .

ولأن من طباعي أحيانًا التريث الممل ، وأننى كسول كـ الكوالا ، فقد تمهلت قليلاً ..
ولم لا ، وقد كانت الأجواء هادئة .. نسبيًا .
ولكن وسط هذا الهدوء الخادع ، أطلق التاريخ دقته التي أيقظت ملايين المصريين .. فى الخامس والعشرين من يناير .
بدأت الثورة ، ولم يعد هناك أي هدوء ، ولو حتى نسبي .
عشتُ في الثورة أيامًا ، قُطعت خلالها الاتصالات وخدمات الإنترنت ،
ثم نُفيت ، أُجبرت على السفر قهرًا إلى الواحات البحرية ، وبالأمس عدتُ .

كالجميع ، غيّرت الثورة بداخلي أشياء عديدة ..
لكنها كذلك غيّرت عنوان الموضوع من "هدوء نسبي" إلــى
"لولا فسحة الأمل" ... وهو اسم طغرائيٌّ زياديٌّ صريح ..
(( نسبة إلى الطغرائي .. الشاعر الأصفهاني ، ومن بعده زياد رحباني ))



عن فسحة الأمل :
"لولا فسحة الأمل" هي إحدى مسرحيات زياد رحباني ، قدمها سنة 1994
والجملة أصلها شطر للطغرائي في قصيدته الشهيرة "لامية العجم" :
أعلل النفس بالآمال أرقبها == ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

ساعات قليلة مرت على بداية الثورة ، تبدل فيها الحال تمامًا ، وتغيرت رؤيتي لبلدي ، التي كنت أراها من خلال كلمات تميم البرغوثي :
يا مصر بطنك بتكذب == ولا حملك حق
إلى كلمات الطغرائي :
أعلل النفس بالآمال أرقبها == ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل

بل ورأيت فيها بعيني ولادة الأمل من رحم معاناة الوطن ..
وها هو الأمل ينتظر قطع حبل الخلاص ..
ها قد انقطع بالفعل .


فاجأني زياد قبل عدة شهور بإسم ألبوم أمه السيدة فيروز : "إيه .. في أمل" ..
ولم يكتفِ بذلك ، بل خلّد أيضًا بصوت فيروز كلمات جبران خليل جبران :
" الأرض لكم . قدّسوا الحرية ؛ حتى لا يحكمكم طغاة الأرض "

ورغم أننى أثق فى زباد إلى أبعد مدى ، وأصدق كل ما يقول ، إلا أنه هذه المرة قد أثار شكوكي ..
أي أمل هذا ؟ ومن أين سيأتي ؟ وكيف ؟!
لم أتوقع أن الرد سيكون سريعًا هكذا ، وبمثل هذه القوة .
أعتذر منك زياد عن شكّي الأهوج ..

إيه زياد ، الأرض لنا ، إيه .. في أمل .


جاءت الثورة ، لتكون الأيام التى خضتها وشهدتها هي ما سأبدأ به .. غرّة الموضوع .



الجمعة، 10 يونيو 2011

مبتدأ أول

منذ أن دخلت عالم بلاطي السحري ، وأنا دائم التردد فى إنشاء موضوع خاص بي ، أسكب فيه هراءاتي ، وأطردها من ذهني ؛ لعلّي أتخلص من مؤلم المستمر في الروح .
الروح ، التي وإن لم تكن بهذا القدر من الشفافية والنقاء الذى تمنيته ، إلا أنها رقيقة هشّة بالقدر الذى لم أتمناه قط .
يشير إليّ بعض الأصدقاء بذلك ، ساقين عدة حوافز مثل : كى يراك الآخرون بشكل أعمق ، كى تحافظ عليها من الضياع ، وقد يشاركك الآخرون شطحاتك ..
ينتقل حماسهم إليّ أنا الآخر ، ثم أفيق لأرى أن كل ما يرونه محفزًا لي هو في واقع الأمر ينفرني أكثر . لمَ أثير غثيان عقلك ، وما الدافع وراء تلطيخ نقاء روحك ؟ ، وفي النهاية لن يقلل ذلك من شقائي الخاص شيئًا ..
تنطفئ جزوة الحماس الملفقة داخلي ..
يبقى فقط رمادها ، وصوت من الأعماق يأتي : اكتب !


احترم القراءة ، أحبها،وأقدّسها،وأمجّدها .
قرأت "عزازيل" ، وهي أفضل ما قرأت بالعربية ، تأثرت بها كثيرًا .. أعترف بذلك .
ولكن قبل أن تكون هناك عزازيل ، كان هناك دائمًا -ولا زال- ذلك الشيطان اللعين بداخلي ، يعيث فى النفس فسادًا .
ربما لديك أنت أيضًا شيطانك الخاص !
لا تنزعج .. لا أثير غضبك ، فقط إهدأ وفتّش بداخلك جيدًا .. ستجده لا محالة .
بمرور الوقت ، أكتشفُ أنني وشيطاني لسنا مختلفيْن إلى هذا الحد ، أجد أننا نكوّن معًا عملة واحدة ، وهل هناك عملة بوجه وحيد ؟!
احتمالٌ واردٌ وبقوة ، أن يكون اللعين فقط من نسج الخيال ، صنعته أنا - فقط - لأحمّله وزر ما أرتكبُ من خطايا ، ربما .
لكنه سواء كان حقيقيًا أو مصطنعًا ، فهو دائمًا موجود ، يصبّ الأفكار في ذهني ويفرّ ..
يتركني لأعاني وحدي تغلغاها ورحلتها المؤلمة من العقل إلى الروح ..
تؤرقني أيامًا ، ينحل جسدي وينقص وزني ، تصيبني الحمى ، أغيب عن الوعي أخيرًا ، وأفيق ، لأجده بجواري يقول : اكتب لتشفى !
أعترضُ ، أتمنّعُ ، أرفضُ ؛ فيكتب هو .


حسنًا ، دعني أخبرك شيئًا ..
في مرّة ،عندما أعدتُ قراءة ما سبق لم أفهم منه شيئًا ، ولم أدري إلى أي منتهى منطقي يقود ، لذا .. أرجوك لا تجاملني وتقول أنك فهمت شيئًا .
ولكن أتعلم ؟ إنها تلك العادة التي تلازمني أغلب الأحيان ..
عندما أريد قول شيئًا ما ، أرى أنه قد يكون صادمًا بعض الشئ ، أظل أدور حوله متفلسفًا بكلامٍ سفسطائي لا معنى له ، وأسوق تبريرات واهية لا تقنع أحدًا ، قبل أن أقولها صراحة :
" الكتابة فعل رجس من عمل الشيطان "


أكره الكتابة فعلاً ..
أقاطعها فترات طويلة ، وأتمنى أن نفترق إلى الأبد ..
أخفي الأوراق ، أكسر الأقلام ، أهجر قراءة الأخبار ، أشاهد أفلام الأطفال الكارتونية ..
ولكن أين أذهب بعقلي ؟!
تجثم الكلمات على صدري ، وتزدحم الطرق في رأسي ، وتختنق أنفاسي كمن يصّعّد في السماء ؛ فألفظ الأفكار أملاً في أن أتخلص منها وأستريح .

أخبرتك قبل قليل أن لديّ روح هشّة ضعيفة ، أخف النسائم تذروها وتحيلها هباءًا منثورًا ، فما بالك بأعتى الرياح ؟!
أكتب ، لأحافظ فقط على روحي لتبقى كما هى ، لتمكنّي من متابعة باقي حياتي في سلام ، إن كانت دروب تقويمها قد إنقطعت .

أمّا إذا كنت تفضل الرواية الأولى ، وأن الشيطان هو من يكتب ، فربما أصبح لديك الآن دليل مقنع على أن الشياطين ليست كلها أشرار.


14/2/2011

الخميس، 17 مارس 2011

قطار

ـ"أترك زمام أمرك للطفل الذي كنته"
من كتاب "الذكريات الصغيرة" لخوسيه ساراماجو ، نقلاً عن كتاب "النصائح"ـ


أتممت الثانية والعشرين في نوفمبر الماضي ..
اثنان وعشون عامًا ، أراها مرت سريعًا أحيانًا ؛ فيصيبني ذعر ..
وألمح -أحيانًا- ذكريات الطفولة بعيدة .. بعيدة ؛ فأغتمُّ .

أضع صورتي صغيرًا على جانب المرآه ، وأنظر لوجهي في الجانب الآخر ..
يا الله !
ماذا حدث ؟ لماذا لم أعد -أنا- أنا ؟
لماذا تركت هذا الطفل النقي ، وسمحت لهذا الآخر أن يرتع ويفسد كيفما شاء ؟!
بالتأكيد لم تكن أيام الطفولة كلها سعادة ، لكنها على أيه حال كانت أفضل من الآن .

كنت طفلا هادئًا،ماكرًا بعض الشئ ، أمشط شعري على جنب ، ألعب الكرة في الشارع ، وأفرّ هاربًا عندما تصطدم بشرفة أحد الجيران ..
أشاهد الرسوم المتحركة ، لدي لعب أحبها ، أتسلق الأشجار وأصيح كطرزان ، أفكك كل جهاز كهربائي لأستخدم المغناطيس أو الموتور في إختراعاتي العلمية التي ستغير حياة البشر في المستقبل .
كنت طفلا وديعًا ، جميل القسمات قليل الكلام ، يحبني الجميع ، وأحب نفسي ..
وحتى صديقات إخوتي كن يلتهمن وجنتي كلما رأوني ..
فأين ذهبت تلك الأيام ؟ ()

هي لم تذهب ، أنا من أجربتها على الرحيل ..
فأنا من ثار متمردًا عند الحلاق : رجعلي شعري على ورا !
وأنا من هجر اللعب في الشارع وتسلق الأشجار ..
أنا من استبدل الرسوم المتحركة بأخرى ثابتة ، ودفعت الرسوم من روحي النقية ، واستبدلتها بأخرى خبيثة فاسدة ..
مثلما استبدلت لعب الأطفال بـ علب السجائر ..
وبدلا من أن تغيّر إختراعاتي العلمية حياة البشر ، تغيرت حياتي أنا كليًّا .

=====

مررت أمس من أمام أحد محال لعب الأطفال ..
توقفت فجأة ونلتُ ما نلت من سباب السائقين ورائي ..
وقفت مبهورًا أمام واجهة المحل ، ثم تذكرت أن خلال الإثنين وعشرين عامًا الضائعة لم أمتلك يومًا قطارًا(لعبة) .
استعنت بكل مكري ، واستخدمت كل الحيَل لأقنع البائعة أنه هدية لأحد أبناء إخوتي،وكي لا تكشف نواياي ، حتى أنني أظهرت لها صورة لـ "إيثار" إبنة أختي .
أخذت البائعة تشرح لي مزايا هذا ، وكيف يعمل ذاك ، حتى أعجبني أحدهم فقلت : دة أكيد هيعجبها!
وبينما كانت البائعة تلف القطار في ورق الهدايا ، دار في ذهني ما قرأته أنت في البداية إلى أن قاطعتني :
- تحب معاه كارت ؟
- كارت إيه ؟
- كارت لعيد الميلاد .. عشان إيثار ؟
- والله يعني .. في الحقيقة .. هو مش لإيثار ، هو ليا .
فابتسمت ولم تقتنع ...
ولم تضع كارت .

لا أدري كيف أصف لك فرحتي بالقطار ، كانت كفرحة مراهِقة تقدم أحمد عز لخطبتها ..
كان فرحي الأكبر لإستعادة جزءًا من روحي .. جزءًا مني .

=====

طفولتي العزيزة ..
آسف على إهمالي لكِ السنوات السابقة ..
أصالحك الآن بالقطار ..
غدّا mbc 3 ..
بعده سأخرب جهاز الراديو ..
بعده سأسرق التوت من شجرة الرجل اليوناني عند مدرستي القديمة ..

ولكن ، آسف مرة أخرى ..
لن أستطيع أن أمشط شعري على جنب .